هذه المرحلة كما أشرنا من قبل تلت معاهدة 36 بعامين، والتي بمقتضاها حصلت مصر على استقلالها صوريًّا إذ أن أبرز نقاط المعاهدة كانت كالآتي:
- تكتفي بريطانيا بعشرة آلاف جنديٍّ وأربعمائة طيار، وينحصر نطاق وجودهم في منطقة القناة، مع استثناء الإسكندرية لمدة ثماني سنوات!
- تنشر بريطانيا قواتها في كافة أنحاء السودان دون قيد أو شرط.
- حق مصر في عقد اتفاقيات مع أي دولة شريطة ألا تتعارض مع بنود المعاهدة أومصالح بريطانيا.
- حق مصر في تبادل التمثيل الدبلوماسي مع بريطانيا.
- حق بريطانيا أن تفوز بدعم الدولة المصرية في حالة دخولها أي حرب.
وكما يتضح من البنود السابقة فاستقلال مصر كان ظاهريًّا لا تخفى حقيقتُه عن مثقفٍ أو غير مثقف، فما بالنا بطه حسين؟!
وليس هناك من شيءٍ أدلّ على ذلك من إلغاء تلك المعاهدة نفسها من جانب الطرف المصري سنة 1951 في ظلّ فرحةٍ مصريّةٍ شعبيّةٍ بهذا الألغاء، وفي ظلّ حزنٍ بريطانيٍّ وغضبٍ ظهرا واضحين في حديث تشرشل الذي اعتبر إلغاء المعاهدة صفعة مهينة للتاج البريطاني.
وقد شهدت مصر في تلك الفترة حراكا سياسيا حقيقيا- انتهى بالطبع مع 23 يوليو فيما بعد- كما شهدت حراكا وطنيًّا.
كما لا يمكن التغافلُ عن حراكٍ فنيٍّ ضخمٍ في مجالات المسرح والسنيما والموسيقى والغناء وبخاصة بعد ظهور الإذاعة.
لكن ما كان ينقصُ مصرَ حقيقةً كان نصيب القاعدة العريضة من الناس من تلك الفنون والمعارف.
ولعل ذلك كان يرجع إلى نسبة شاذة عرفها المجتمع المصري في ذلك الحين، وهي نسبة رقي المحتوى التعليمي داخل مصر أو من خلال البعثات إلى أوروبا من جانب، قياسًا إلى قلّة أعداد المتعلمين تمامًا من جانب آخر.
مع الوضع في الاعتبار أن الأزهر كان الجهة التعليمية الأكثر انتشارًا وتأثيرًا في هذا الوقت، وفيه تعلّم طه حسين .
ولديّ هنا إشارة أودّ أن ألفت النظر إليها، وهي لماذا لم يسمِّ الأستاذ العميد كتابه هذا باسم( مستقبل التعليم في مصر)؟
الإجابة بيسر تتلخّص في كون عميد الأدب العربيّ أبصر مبكرًا أنّ التعليم جزءٌ من الثقافة، ولعله وإن كان أتم العملية التعليمية في الأزهر إلا أنه افتقد حينها العلم بمفهومه المنفتح حيث الشك والسؤال والتجريب والتأويل، وافتقد مفهوم التعليم كوسيلة من وسائل الثقافة وليس غاية مختومة وموثقة في شهادة.
أدرك العميد أن التعليم جزء من الثقافة، فكان عنوان كتابه الذي حوى مخاوفه المستقبلية، وقد تحقق معظمها!
كما حوى آماله المرجوة، والتي تكاد تكون لم يتحقق منها شيء.
ولعل الأستاذ العميد أدرك هذا واستشرفه أكثر بعد يوليو.
ولو قال قائل إن الثقافة كانت بخير حتى نهاية الستينيات سأوافقه بكل تأكيد ولكن تلك الحقبة كانت ثمرات لما انغرس قبلها في الأربعينيات والثلاثينيات في العصر البائد كما يحلو للبعض تسميته.
هناك أمور تستوقفني حين أتحدث عن تلك الفترة أو عن ذلك الكتاب.
منها أن الأزهر الشريف رغم قوة تأثيره حينها لم يتورط كثيرا في قضايا تفكير أو تكفير، ورغم تشدّده في بعض المواقف إلا أن العقل المصري لم يكن قد تعرّض بعد لفيروس السلفية الذي تفشى بعد ذلك.
أيضا وربما لقصور مني أرى أن الواقع الثقافي المصري لم ينتبه حينها إلى خطر جماعة الإخوان، ربما لتوهم الكثير حينها أنهم جماعة سياسية فحسب..
يبدو حديثي متشعّبا وربما متداخلا أو مختلطا لكنني أحاول في مقال واحد أو اثنين على الأكثر أن أشير إلى الملامح العريضة لسياقات مرحلة ظهور الكتاب.
وأختتم بتساؤلي حول ما ذهب إليه الأستاذ العميد في كتابه حين تحدث عن هوية مصر، وتحديدا هوية عقلها ورأي أن مصر رغم لسانها العربي فهي تنتمي إلى حوض البحر المتوسط، وهُويتها العقلية أوروبية!
وعلامة التعجب السابقة تعني دهشتي مما ذهب إليه طه حسين، بل تحفّظي الذي قد يرتقي إلى الرفض.
ولكنني لا أتبنى الضد، فلست ممن يعالجون اليمين باليسار ولا العكس، لكنني مؤمن أن طه حسين محق في أن هوية العقل المصري ليست عربية، لكنني أخالفه في مسألة الهوية الأوروبية تلك، وأتساءل:
ألا يكفي أن نقول إن هويتنا مصرية؟!
- وفي هذا الشأن شأن هويتنا المصرية إذا يسر الله الأمر سيكون هناك عدة مقالات ضمن هذا الملف-
هل قصد طه حسين هوية عقول الصفوة والنخبة؟!
الصفوة من أصحاب القصور وأصحاب المعالي من الباشاوات والبكاوات الذين يقضون الصيف في أوروبا.
والنخبة المثقفة المحظوظة بالسفر إلى أوروبا وتلقي التعليم هناك وهم معدودون بالعشرات أو حتى المئات من أمثال طه حسين نفسه.
هل يمكن للأستاذ العميد أن يعمم هكذا؟
أم تراه كان يقصد أن أبناء هاتين الطبقتين هم من يتصدرون المشهد؟!
لست ممن ينحازون إلى ما يكتبون، بل لعلي لا أكون مبالغا لو قلت إن استعدادي النفسي والعقلي كبير في تقبل تغيير قناعاتي، وفي المقابل فإنني فقير جدا في مسألة التشبث بما يفكر فيه ويطرحه
فنحن مدينون للشك، للسؤال، للتجريب، للبحث..
مدينون لطه حسين الذي أشار مبكرا جدا أن التعليم جزء من الثقافة
مدين له حين أتحفّظ على وجهة نظره في مسألة الهُوية، إذ فتح لنا أبوابا من التفكير
وفي تصوري المتواضع
فإن الأسئلة التي طرحتُها في مقالي الأول وبخاصة سؤالي الساذج في مظهره الخارجي:
ما المقصود بمصر؟
ربما يكون مدخلا لا بأس به نشتبك معه حين نتحدث عن مستقبل ثقافة مصر الآن.
عمرو الشيخ
رد أشرف البولاقي
مستقبل ثقافة مصر 2021إشكاليتان كبيرتان طَرحهما الأستاذ عمرو الشيخ، في قراءته الثانية حول "مستقبل ثقافة مصر 2021"، تحتاج كل منهما إلى وقفةٍ مستقلة؛ بسبب طول ما يستحق العرضَ والتفنيد في كلٍ منهما.
أمّا الإشكالية الأولى، فهي إعادة تأكيدِه لِما سَبق أن طرحه في قراءته الأولى، مِن أن كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر"، "لا يمكن التعامل معه بمعزل عن سياقيه التاريخي والمجتمعيّ إذا اعتبرناهما- السياقين- اثنين وليسا واحدًا".
( تحميل كتاب مستقبل مصر)
وهو ما اتفقتُ جزئيًا معه، وأشرتُ في مداخلتي الأولى إلى التغيير الذي بدا وكأن مصر تشهده آنذاك، حتى لو بدا الاستقلال ظاهريًا كما جاء في معاهدة 1936، لكنه كان خطوةً أولى استشعَر معها العميد ضرورة أن تلتفت مصر إلى عقلها وثقافتها.
لكنه يقف طويلا في قراءته الثانية أمام السياق التاريخي والمجتمعي، بل إنه يورِد بنودَ المعاهدة، ويقف أمام الشرائح الاجتماعية المصرية، حتى ليغلب على الظن في تصورِه أنه لولا المعاهدة وما تَرتّب عليها، لَمَا كان مقدّرًا للكتاب أن يصدر! وهو ما نخالِفه فيه وعليه.
ولقد أظن أنه لن يختلف معي في أن طه حسين، كان نسيج وحده في تلك الفترة، ولا يمكن اعتباره أديبًا فقط، ولا مثقفًا فقط، فالأدباء والمثقفون في عصره كانوا كثيرين، لكن حسين كان مؤرخًا وناقدًا ومفكرًا، بشرط ألا ينصرف ذهننا إلى صفة "ناقد" كما ينصرف الآن، ولقد كان في عصره نقادٌ ومؤرخون ومفكرون أيضًا، لكن طه حسين كان شيئًا آخر مختلفًا وجديدًا.
ولعل صديقنا سيلتفت معنا إلى أن كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، الصادر سنة 1926م قبْل عشر سنوات مِن المعاهدة، كان جزءًا من مشروعه الكبير في توجيه العقل المصري نحو وجهةٍ جديدة، ولقد كان يمكن لكتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، أن يصدر قبل موعدِه الذي صَدر فيه، أو حتى بعد موعده الذي صَدر فيه، كل ما في الأمر أن العميد استثمر الفرصةَ التي وجدها سانحة، فرصةَ ورودِ "الاستقلال" للمرة الأولى في محررٍ رسمي دولي صادرٍ عن دولة الاحتلال.
وبغضّ النظر الآن عن انتماء مصر إلى ثقافة الشرق أو الغرب، فأظن أن الحديث عن العقل المصري في الكتاب، وعن الثقافة والتعليم، متصلٌ تمامًا بمنهجه النقدي في كتاب "في الشعر الجاهلي"؛ فالغايةُ في الكتابيْن واحدة، ولعل الصديق يَذكر أن الطبعة الثانية الجديدة لكتاب "في الشعر الجاهلي" صدرت بعنوان "في الأدب الجاهلي" بعد الضجة إياها، لكن المفاجأة فيها أنها تضمّنت عدة فصولٍ ومباحثَ جديدةٍ تتحدث عن (التعليم) في الأزهر وفي المدارس والجامعة!
فما الذي يعنيه هذا؟
يعني أن قضية التعليم والثقافة كانت الشغلَ الشاغل لـ طه حسين منذ عام 1926م، وأنه سواءٌ أكانت المعاهدة أم لم تكن، كان يمكن للكتاب الذي يتحدث عن مستقبل الثقافة في مصر أن يصدر ضمن مشروع طه حسين، وليس أدلّ على ذلك مِن أن مادة الكتاب – بعيدًا عن المقدمة – لم ترهن شيئًا مِن أفكارها وأطروحاتها بالمعاهدة ولا بتنفيذ أيٍ مِن بنودها! بمعنى أن الحديث عن العقل المصري ومستقبل الثقافة كان ضرورةً حتمية وتاريخية عند طه حسين، يتفق مع وعيه وثقافته وحراكه.
أمّا الإشكالية الأخرى، فهي تلك التي تَحدث فيها الأستاذ عمرو عن "هوية مصر"، والتي أرجو أن أوفَّق في التعرض لها غدًا.
مستقبل ثقافة مصر 2021 بين عمرو الشيخ وأشرف البولاقي (1)
تعليقات
إرسال تعليق